الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال السلمي: قوله أيضًا: {إنَّما التَّوبَةُ على اللهِ للَّذِينَ يَعملُونَ السُّوءَ بجهالةٍ} [الآية:].قال: للذين يتقربون بالطاعات إلى من لا يتقرب إليه.وقال محمد بن الفضل رحمه الله: ضمن الله عز وجل التوبة لمن يبدر منه الذنب من غير قصد، لا لمن يضمره ويتأسف على فوته، قال الله تعالى: {إنَّما التَّوبَةُ على اللهِ للَّذِينَ يَعملُونَ السُّوءَ بجهالةٍ}. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بِجَهَالَةٍ} السوء في هذه الآية، والأنعام {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ} [الأنعام: 54] يعمّ الكفر والمعاصي؛ فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا؛ وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي.وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا: الجهالة هنا العمد.وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة؛ يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله.وهذا القول جار مع قوله تعالى: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36].وقال الزجاج: يعني قوله: {بِجَهَالَةٍ} اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية.وقيل: {بجَهَالَةٍ} أي لا يعلمون كُنه العقوبة؛ ذكره ابن فورك.قال ابن عطية؛ وضُعِّف قوله هذا ورُدّ عليه. اهـ..قال ابن عطية: {بجهالة} معناه: بسفاهة وقلة تحصيل أدى إلى المعصية، وليس المعنى أن تكون الجهالة أن ذلك الفعل معصية، لأن المعتمد للذنوب كان يخرج من التوبة، وهذا فاسد إجماعًا، وبما ذكرته في الجهالة قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك عنهم أبو العالية، وقال قتادة: اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدًا كانت أو جهلًا، وقال به ابن عباس ومجاهد والسدي، وروي عن مجاهد والضحاك أنهما قالا: الجهالة هنا العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة.قال القاضي أبو محمد: يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله، وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} [محمد: 36، الحديد: 20] وقد تأول قول عكرمة بأنه للذين يعملون السوء في الدنيا.قال القاضي أبو محمد: فكأن الجهالة اسم للحياة الدنيا، وهذا عندي ضعيف، وقيل: {بجهالة}، أي لا يعلم كنه العقوبة، وهذا أيضًا ضعيف، ذكره ابن فورك ورد عليه. اهـ..قال الطبري: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال: تأويلها: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها، عامدين كانوا للإثم، أو جاهلين بما أعدّ الله لأهلها.وذلك أنه غير موجود في كلام العرب تسمية العامد للشيء: الجاهل به، إلا أن يكون معنيًّا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته، فيقال: هو به جاهل، على معنى جهله بمعنى نفعه وضُرّه. فأما إذا كان عالمًا بقدر مبلغ نفعه وضرّه، قاصدًا إليه، فغيرُ جائز من أجل قصده إليه أن يقال هو به جاهل، لأن الجاهل بالشيء، هو الذي لا يعلمه ولا يعرفه عند التقدم عليه أو الذي يعلمه، فيشبَّه فاعله، إذ كان خطأ ما فعله، بالجاهل الذي يأتي الأمر وهو به جاهل، فيخطئ موضع الإصابة منه، فيقال: إنه لجاهل به، وإن كان به عالمًا، لإتيانه الأمر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به.وكذلك معنى قوله: {يعملون السوء بجهالة}، قيل فيهم: {يعملون السوء بجهالة} وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله، عامدين إتيانه، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من جَهِل عظيمَ عقاب الله عليه أهلَه في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، فقيل لمن أتاه وهو به عالم: أتاه بجهالة، بمعنى أنه فعل فعل الجهَّال به، لا أنه كان جاهلا.وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه: أنهم جهلوا كُنْه ما فيه من العقاب، فلم يعلموه كعلم العالم، وإن علموه ذنبًا، فلذلك قيل: يعملون السوء بجهالة.قال أبو جعفر: ولو كان الأمر على ما قال صاحب هذا القول، لوجب أن لا تكون توبة لمن علم كُنْه ما فيه. وذلك أنه جل ثناؤه قال: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} دون غيرهم. فالواجب على صاحب هذا القول أن لا يكون للعالم الذي عمل سوءًا على علم منه بكنه ما فيه، ثم تاب من قريب توبة، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه وقوله: باب التوبة مفتوح ما لم تطلع الشمس من مغربها وخلاف قول الله عز وجل: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} [سورة الفرقان: 70]. اهـ..قال ابن عاشور: {إنَّما} للحصر.و{على} هنا حرف للاستعلاء المجازي بمعنى التعهّد والتحقّق كقولك: عليّ لك كذا فهي تفيد تحقّق التعهّد.والمعنى: التوبة تحقّ على الله، وهذا مجاز في تأكيد الوعد بقبولها حتّى جعلت كالحقّ على الله، ولا شيء بواجب على الله إلا وجوب وعده بفضله.قال ابن عطية: إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يَقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا وليس وُجوبا.وقد تسلّط الحصر على الخبر، وهو {للذين يعملون}، وذكر له قيدان وهما {بجهالة} و{من قريب}.والجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون رويَّة، وهي ما قابل الحِلم، ولذلك تطلق الجهالة على الظُلم.قال عمرو بن كلثوم:وقال تعالى حكاية عن يوسف: {وإلاَّ تَصْرِفْ عنّي كَيْدَهُنّ أصْبُ إليْهن وأكُنْ من الجاهلين}.والمراد هنا ظلم النفس، وذكر هذا القيد هنا لمجرّد تشويه عمل السوء، فالباء للملابسة، إذ لا يكون عمل السوء إلاّ كذلك.وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجَهل، وهو انتفاء العلم بما فعله، لأنّ ذلك لا يسمّى جهالة، وإنّما هو من معاني لفظ الجَهل، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنّها معصية لم يكن آثمًا ولا يجب عليه إلاّ أن يتعلّم ذلك ويجتنّبه. اهـ. .قال القرطبي: قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} قال ابن عباس والسدّي: معناه قبل المرض والموت.وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل الموت فهو قريب.وقال أبو مَجْلِز والضحاك أيضًا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسّوْق، وأن يُغلَب المرء على نفسه.ولقد أحسن محمود الوّراق حيث قال:قال علماؤنا رحمهم الله: وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت؛ لأن الرجاء باقٍ ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل.وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِر» قال: هذا حديث حسن غريب.ومعنى ما لم يغرغر.ما لم تبلغ روحه حُلقُومه؛ فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به.قاله الهروي.وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار.والمبادر في الصحة أفضل، وألْحَق لأمله من العمل الصالح.والبعد كلّ البعد الموتُ؛ كما قال. وروى صالح المُرّي عن الحسن قال؛ من عيّر أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به.وقال الحسن أيضًا: إن إبليس لما هبط قال: بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الرّوح في جسده.قال الله تعالى: «فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه». اهـ. .قال الألوسي: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبئ عنه ما سيأتي من قوله تعالى: {حتى إِذَا حَضَرَ} [النساء: 18] إلخ يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها: «من تاب قبل موته بسنة تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن اليوم لكثير من تاب قبل موته بساعة تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن الساعة لكثيرة من تاب قبل موته وقد بلغت نفسه هذه وأهوى بيده الشريفة إلى حلقه تاب الله تعالى عليه» وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة قال: كنا عند أنس بن مالك وَثَمّ أبو قلابة فحدث أبو قلابة قال: إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم الدين فقال وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح قال: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت، وروى مثله عن الضحاك، وعن عكرمة الدنيا كلها قريب وعن الإمام القشيري القريب على لسان أهل العلم قبل الموت، وعلى لسان أهل المعاملة قبل أن تعتاد النفس السوء ويصير لها كالطبيعة، ولعل مرادهم أنه إذا كان كذلك يبعد عن القبول، وإن لم يمتنع قبول توبته، و{مِنْ} تبعيضية كأنه جعل ما بين وجود المعصية وحضور الموت زمانًا قريبًا، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان تاب فهو تائب في بعض أجزاء زمان قريب، وجعلها بعضهم لابتداء الغاية.ورجح الأول بأن من إذا كانت لابتداء الغاية لا تدخل على الزمان على القول المشهور، والذي لابتدائيته مذ ومنذ، وفي الإتيان بثم إيذان بسعة عفوه تعالى. اهـ..قال ابن عاشور: وقوله: {من قريب}، من فيه للابتداء و{قريب} صفة لمحذوف، أي من زمن قريب من وقت عمل السوء.وتأوّل بعضهم معنى {من قريب} بأنّ القريب هو ما قبل الاحتضار، وجعلوا قوله بعده {حتى إذا حضر أحدهم الموت} يبيّن المراد من معنى (قريب).واختلف المفسّرون من السلف ومَن بَعدهم في إعمال مفهوم القيدين بجهالة من قريب حتّى قيل: إنّ حكم الآية منسوخ بآية {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، والأكثر على أنّ قيد {بجهالة} كوصف كاشف لعمل السوء لأنّ المراد عمل السوء مع الإيمان.
|